الجمعة، 22 ديسمبر 2017


هو الإمام، الحافظ، الثبت، ذو الفنون، العلامة الوزير قاضي الجماعة بقرطبة، أبو مطرّف عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فُطَيس ـ لقب له واسم في ولد له ـ بن أصبَغْ بن فطيس بن سليمان، القرطبي المالكي.

ولد سنة ثمانٍ وأربعين وثلاث مائة بقرطبة وبها نشأ، وترعرع، وفي الغالب أخذ المبادئ الأولية في التعلم والقراءة والكتابة بقرطبة، إذ لم تشر مصادر ترجمته إلى ذلك، لكنها أشارت إلى سماعه وروايته عن كثير من شيوخ عصره من الأندلس والقادمين إليها، وممن روى عنهم: الفقيه أبو عيسى الليثي (ت367 هـ) ، والحافظ الكبير أبو زكرياء بن عائذ الأندلسي (ت376 هـ)، والمقرئ المفسر أبو الحسن علي بن محمد الأنطاكي (ت377هـ) ، و الشيخُ المحدِّث الإمام الرّحَّال أحمد بن عون الله الأندلسي (ت378 هـ)، والحافظ، محدث الأندلس أبو محمد ابن الباجي الأندلسي(378هـ)، وأبو عبد الله بن مفرج القرطبي القاضي(ت380 هـ)، محدث الأندلس، والإمام الحافظ المجوّد أبو محمد عبد الله بن القاسم القلعي(ت383 هـ)، والمحدث الفقيه أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي(ت392هـ)، والحافظ أبو القاسم خلف بن القاسم الأندلسي(ت393هـ) ، قال ابن بشكوال في الصلة: «سمع الحديث منهم وكتبه عنهم، وتكرر عليهم، ووالى الاختلاف إليهم».

وكانت بينه وبين علماء من مكة وبغداد ومصر والقيروان مكاتبات، فمن المشرق كتب إليه: أبو يعقوب بن الدخيل، ومن مصر أبو الحسن ابن رشيق، وأبو القاسم الجوهري، ومن بغداد: أبو الطيب أحمد بن سليمان الحريري، وأبو الحسن علي بن عمر الدارقطني، وأبو بكر الأبهري، ومن القيروان: أبو محمد بن أبي زيد الفقيه، وأبو أحمد بن نصر الداودي.

كان القاضي ابن فطيس من كبار المحدثين وصدور العلماء المسندين، حافظاً للحديث متقناً لعلومه، جمع من الكتب في أنواع العلم ما لم يجمعه أحد من أهل عصره بالأندلس، وله مشاركة في سائر العلوم، إلا أنه برع في الحديث دراية ورواية، إذ كان له مجلس يملي فيه الحديث من حفظه، وستة وراقين يكتبون عنه ما يمليه في المسجد، كما كان مولعا بابتياع الكتب واستنساخها، ولما توفي اجتمع أهل قرطبة لبيع كتبه فأقاموا في بيعها مدة عام كامل في المسجد.

تقلد قضاء الجماعة سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، وخُطبَة الجمعة، وَهُوَ أحد الأعاظم من وزراء السُّلْطَان فِي أحد الْبيُوت المولوية الَّتِي انْتهى إِلَيْهَا الشّرف أيام المظفر عبد الملك بن أبي عامر، وقلَّ ما اجْتمع ذَلِك لقاض قبله بالأندلس، ثم صرف عن القضاء وخطبة الجمعة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وقد اشتهر في أحكامه بالصلابة في الحق ونصرة المظلوم، قال أبو عمر ابن الحذاء: «كان من أبناء الدنيا فلما وليَ القضاء ترك زي الوزارة ولزم زياً أخضرا كزي الفقهاء».

حدث عنه كبار العلماء منهم أبو عمر بن عبد البر، وأبو عبد الله بن عائذ، والصاحبان وابن أبيض، وسراج القاضي، وأبو عمر بن سميق، وأبو عمر الطلمنكي، وحاتم بن محمد، وأبو عمر الحذاء، والخولاني، وأبو حفص الزهراوي وغيرهم.

خلّف القاضي ابن فطيس رحمه تراثا علميا زاخرا، في عدة فنون منها: كتابه «الناسخ والمنسوخ» و«أسباب النزول» و«القصص» و«المصابيح في فضائل الصحابة» و«فضائل التابعين» و«الإخوة من المحدثين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين» و«أعلام النبوة ودلالات الرسالة» و«كرامات الصالحين ومعجزاتهم»، و»مسند حديث محمد بن فطيس« و«مسند قاسم بن أصبغ العوالي» وغير ذلك من تواليفه.

جعله القاضي عياض «من مشاهير علماء القرطبيين وجلتهم وفضلائهم»، وقال في حقه ابن بشكوال: «من جهابذة المحدثين، وكبار العلماء والمسندين»، وقال أيضا الذهبي: «كان من جهابذة المحدثين، وكبار العلماء والحفاظ، عارفا بالرجال».
توفي القاضي ابن فطيس رحمه الله، أوائل الفتنة البربرية يوم الثلاثاء للنصف من ذي القعدة سنة اثنتين وأربع مائة، ودفن في اليوم المذكور بتربة سلفه على باب منازلهم وقرب مسجدهم، وصلى عليه ابنه أبو عبد الله محمد.

من إنجاز: ذ. محمد لحمادي
باحث بمركز الدراسات القرآنية

مصادر ترجمته:  ترتيب المدارك وتقريب المسالك (7/181ـ183)، والصلة في تاريخ أئمة الأندلس لابن بشكوال (ص: 298 ـ 300)، وبغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس (ص: 356) وطبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي الدمشقي (3/258 ـ 260)، وتاريخ الإسلام للذهبي (9/44) وتذكرة الحفاظ للذهبي (3/175) وسير أعلام النبلاء للذهبي (13/22) والوافي بالوفيات للصفدي (18/153) والمرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا لابن الحسن الجذامي (ص: 87).

الاثنين، 9 أكتوبر 2017

القراءات الحداثية للقرآن الكريم ومناهج نقد الكتاب المقدس: دراسة تحليلية نقدية


صدر كتاب «القراءات الحداثية للقرآن الكريم ومناهج نقد الكتاب المقدس: دراسة تحليلية»، للدكتور يوسف الكلاَّم، ـ أستاذ مقارنة الأديان في مؤسسة دار الحديث الحسنية بالرباط، عن مجلة البيان، 1434هـ، في 95 صفحة، والكتاب يتألف من مقدمة، ومدخل، وأربعة عناوين رئيسية، ثم خاتمة.

في المقدمة تحدث د. يوسف الكلام، عن دواعي الاشتغال بالموضوع، حيث ربطها بما يروج في الآونة الأخيرة، من دعاوى "أصحاب القراءات الجديدة" و"الحداثية للنص القرآني"، الذين يدّعون تقادم المناهج الإسلامية، وفي مقدمتها أصول التفسير وقواعده ..، وأفصح عن الأسئلة الكبرى التي سيجيب عنها البحث، من خلال إبراز طبيعة الكتاب المقدس وحقيقة جمعه وتدوينه وتقنينه ولغاته، ومقارنته بالقرآن الكريم على ضوء الإشكالات المثارة، مذيلا مقدمته بمحاور الكتاب.

وفي مدخل الكتاب حدّد المؤلف أهم الإشكالات العلمية المثارة من لدن أصحاب القراءات الحداثية للقرآن الكريم، بعد أن ساق جملة من أقوال المؤولة الجدد حول القرآن الكريم، والمتمثلة حسب زعمهم في بشرية القرآن، وأن الوحي الذي نزل على محمد صلى الله وعليه وسلم لم يكن وحيا بل مجرد حالة سيكولوجية كانت تنتابه من وقت لآخر، ودعوى تأخر تدوين القرآن عن عهد النبي صلى الله وسلم، ودعوى أن القرآن مدونة بشرية تحكمت فيها القوى السياسية الحاكمة، ودعوى أهمية تطبيق مناهج نقد الكتاب المقدس لفهم النص القرآني.

حول حركة نقد الكتاب المقدس وأصول الإشكالات المثارة عن القرآن

انطلق المؤلف من أولى الإشكالات المثارة حول الوحي عموما ووحي القرآن خصوصا، لينتهي بسؤال مفصلي؛ هل هذه الإشكالات فرضها البحث العلمي والموضوعي لنص القرآن، أم هي إشكالات فرضتها البحوث العلمية التي عرفها الكتاب المقدس ليتم إسقاطها على النص القرآني، وهذا ما حاول المؤلف الإجابة عنه في ثنايا محاور الكتاب، من خلال:

أولا: أصل دعوى بشرية القرآن

في البدء بين المؤلف المراحل التي قطعها الكتاب المقدس ليكون متاحا لجميع الأفراد بعد أن كان محتكرا من قبل "السلطة الدينية" الكنيسة، فقد ساعدت ترجمته وتعدد طبعاته في انتشاره، مما حدا باكتشاف الكثير من الاختلاف والتداخل والانقطاع أحيانا، مما كان لذلك دور في لجوء النقّاد المسيحيين إلى المناهج النقدية المطبقة على نصوص الإغريق وغيره، في محاولة لاكتشاف عواره.
ثم قدم الباحث مجموعة ممن نفوا أو شككوا في وحي الكتاب المقدس، من أحبار اليهود كـ "بابا بترا"، والكوهن A.COHEN والربي José والربي Siméon والربي HILLEL والربي Meir والفيلسوف باروخ سبينوزا، الذي سبقه أبراهام ابن عزرا، ثم أورد بعض الدراسات التي استدلّت على نفي وحي الكتاب المقدس، منها ما ذكره العالم المسيحي Jaen ASTRUC في كتابه: "فرضيات حول المصادر التي يبدو أن موسى اعتمد عليها في تأليف سفر التكوين"، حيث استبعد فرضية الوحي لأن موسى يتحدث في سفر التكوين كمؤرخ، من غير أن يذكر أن ما يرويه وحي أوحاه الله إليه([1])، وقسم المصادر التي اعتمدها موسى إلى "المصدر الإلوهيمي" و"المصدر اليهودي"، بالإضافة لأدلة أخرى قامت عليها دعوى أستروك.

وهذا بخلاف القرآن الكريم الذي تضمن في العديد من آياته الحجج الدالة على أن ما يرد فيه من الغيبيات وحي أوحاه الله لنبيه: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ سورة آل عمران، الآية: 44، وقوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ سورة هود، الآية: 49.

وقد حاول أصحاب القراءات الحداثية ـ منهم محمد أركون ـ أن يسلكوا نفس مسلك نقاد الغرب، في نقد الكتاب المقدس لتطبيق الأمر نفسه على سور القرآن، وهذه الدراسات النقدية المشككة، استدعت مراجعة مفهوم الوحي والنبوّة في الكتاب المقدس، فالوحي بحسبهم حالة نفسية سيكولوجية، ثم أطلق عليه فيما بعد مصطلح "إلهام"، والنبي لا يخرج عن أن يكون كاهنا أو ساحرا أو شاعرا، فالمفهوم إذا مغاير لما في القرآن الكريم، وهذا الفهم الخاطئ حول طبيعة الكتاب المقدس ومضمونه هو ما حاول أصحاب القراءات الحداثية إسقاطه على القرآن الكريم، من خلال استصحاب نتائج الدراسات التوراتية والإنجيلية  وتطبيقها على القرآن الكريم.

ثانيا: أصل دعوى تأخر تدوين القرآن عن عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المتلو غير المدون

بيَّن المؤلف بطلان دعوى أصحاب القراءات الحداثية للقرآن الكريم، في تأخّر تدوين القرآن عن عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المتلو غير المدوّن، من خلال الكشف عن أصول هذه الإشكالات الموجودة في مراحل تدوين الكتاب المقدس، بعهديه؛ القديم والجديد، فقد عرف مشكلات في مصدريته، وكاتبيه وزمن كتابته، بحسب ما توصل إليه نقاده كابن حزم مبكرا، ثم نقاد الغرب، أشهرهم سبينوزا ورشارد سيمون وجون أستروك وشارل جنيبير، إلى أنه عمل بشري قام به أحبار اليهود والمسيحيون معتمدين في ذلك على مصادر شفوية تناقلوها فيما بينهم، ولم يأخذه شكله النهائي إلا بعد قرون.

وهذا بخلاف القرآن الكريم الذي عُرفت مصدريته ولغته، وزمن كتابته وكتبته، فقد تكفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابته في اللحظة التي كان ينزل فيها الوحي، فكان حفظ القرآن مما تكفل به الحق سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ سورة الحجر، الآية: 9.

ثالثا: أصل دعوى أن القرآن مدونة بشرية

بيَّن المؤلف الإسقاط المنهجي المخل الذي ادّعاه أصحاب القراءات المعاصرة بأن القرآن الكريم مدوّنة بشرية، كما فعل عبد المجيد الشرفي، باستصحاب الحكم الذي توصلوا إليه على الكتاب المقدس، الذي عرف عملية شذ وجذب بين اليهود والمسيحيين، في قانونية بعض أسفاره، أي الاعتراف بها، من حيث الصحة والترتيب والعدد، وقد تساءل الباحث عن الكيفية التي تم بها تقنين بعض الكتب المقدسة ورفض البعض الآخر، والمعايير المتبعة في الانتقاء؟

فيجيب بأن المعيار الذي اتخذوه في عملية الانتقاء هو المصدرية الرسولية لهذه الكتب، فتقبل كل الكتب المعترف لها بهذه المصدرية، كالأناجيل الأربعة ورسائل بولس، وترفض كل التي تدعي لنفسها هذه المصدرية، ويشير الباحث إلى أن هذا المعيار لم يحترم تطبيقه في انتقاء جميع الكتب، حيث تم حذف بعض الأناجيل رغم نسبتها إلى الحواريين، وهذا ما أكده القس Jean MESLIER، في حين أن القرآن الكريم «تمت كتابته في عناية بعناية ودقة وحرص منذ العهد النبوي، فكانت هذه العملية من أخص خصوصيات القرآن إذ لم يعرف نص ديني من قبل مثل هذ الضبط والتدقيق»([2]).

وقد أثار المؤلف طعون المستشرقين في تواتر القراءات القرآنية واعتبارها إنتاجا بشريا، وأنه متعدد الروايات مثل الأناجيل، من خلال الاعتماد على روايات موضوعة وواهية لا ترقى إلى درجة الصحة، كقصة الغرانيق التي اشتملت عليها بعض الكتب التراثية.

مما حدا بمؤلف الكتاب إلى الرد على هذه الافتراءات من خلال توضيح نشأة القراءات القرآنية بعيدا عن الروايات المغلوطة، ليؤكد في الأخير أن التشكيك في القرآن من قبل أصحاب القراءات الحداثية نابع من تأثرهم بمناهج الغرب في نقد الكتب المقدسة.

رابعا: دعوى أهمية تطبيق مناهج نقد الكتاب المقدس لفهم النص القرآني

في هذا المحور تحدث د. يوسف كلام عن أهم المناهج التي طبّقت على الكتاب المقدس من قبيل المنهج الفيلولوجي والمنهج التاريخي، التي نادى بها أصحاب القراءات الحداثية، من أجل تجربتها على القرآن الكريم، متناسين أن القرآن الكريم  نفسه يقيم التحدي من أجل الإتيان بمثله أو اكتشاف تناقضه أو اختلافه، يقول الحق سبحانه: ﴿أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾ سورة النساء، 82.

ومن خلال تطبيق المنهج الفيلولوجي والتاريخي على نص الكتاب المقدس، تبين للمؤلف أن الكتاب المقدس يعبتر مجالا خصبا لتطبيقهما عليه، بالإضافة إلى أن لغته الأصل مجهولة وترجماته متعددة، ومدونوه متعددون ومجهولو السيرة، وزمن تدوينه امتد قرونا طويلة، بخلاف القرآن الكريم الذي ينأى بنفسه على أن تطاله أيادي عابثة، أو أن يكون قد وقع فيه ما وقع للكتب المقدسة بعهديها القديم والجديد.

الخاتمة:

وفي الختام أبرز المؤلف أن دعوى تطبيق مناهج نقد الكتاب المقدس على القرآن، دعوى باطلة تدحضها الحجج العلمية، فضلا عن الاختلاف الحاصل بينهما من حيث سلامة اللغة التي تميز بها القرآن عن غيره من الكتب المقدسة، ودقة ضبط جمعه وتدوينه بعد وفاة نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم.

فالقرآن انتقد التحريفات التي طالت الكتب التي سبقت وأقام في عدد من آياته زيغها عن الحقيقة، بفعل التدخل البشري في هذه النصوص عبر فترات من الزمن، إلى أن صارت شبه محرّفة، كما أن القرآن مفتوح لكل الناس من أجل قراءته وتدبره وفق الآليات والضوابط الصحيحة.

إنجاز: ذ.محمد لحمادي
باحث بمركز الدراسات القرآنية

أبو العباس المرسي المالكي (ت542هـ)

هو الشيخ الفقيه الإمام المقرئ الكبير، المفسر، النحوي العددي، أحمدُ بن عليِّ بن أحمدَ بن يحيى بن خَلَف بن أفلَحَ، بن رَزْقُون ـ بتقديم الراء، بن سَحْنون بن مَسْلَمةَ القيسي الباجي ثم الجزيري، أبو العبّاس المُرْسِيُّ المالكي.

أصله من باجة القيروان، وفيها نشأ وترعرع، وانتقل إلى الجزيرة الخضراء فاستقرّ بها، ومنها أخذ العلم في سن السابعة من عمره عن شيوخ بلده، ثم رحل في طلب العلم إلى بلنسية وشاطبة وقرطبة ومالقة وإشبيلية، فأخذ عن جمع غفير من العلماء، منهم: أبو الحسين يحيى بن إبراهيم ابن البياز، وأبي علي بن سكرة، وأبي داود بن نجاح، وأبي الحسن بن عبد الرحمن ابن الدوش، وأبي الحسن بن خلف العبسي، وأبي بكر خازم وأبي القاسم خلف بن إبراهيم ابن النخاس  وغيرهم. 

وتصدر للإقراء بالجزيرة الخضراء وأخذ الناس عنه، وولي القضاء ببكورة أركش مدة، فحمدت سيرته واشتدت وطأته على أهل الفساد ليصرف عن القضاء، فلازم الإقراء وإسماع الحديث بمسجد الرمانة من الجزيرة الخضراء، وقد كان قبل يقرئ بمسجدها الجامع وبمسجد الرايات منها. 

ممن روى عنه ابنه أبو الحسن، وابن عتيق بن مؤمن، وأبو بكر: عتيق بن مؤمن وابن خير الإشبيلي، وأبو إسحاق بن على بن يوسف الجذامي، وأبو حفص بن عذرة، وأبو الخليل مفرج بن سلمة، وأبو عبد الله: ابن عبد الملك بن النسرة وغيرهم.

قال في حقه ابن عبد الملك المراكشي: «كان مقرئا مفسرا محدثا فقيها مشاورا نحويا عدديا»، وقال الذهبي: «كان فقيها مشاوراً، حافظاً، محدثاً مفسراً، نحوياً».

وتوفي أبو العباس المرسي بالجزيرة الخضراء في شهر ذي الحجة، سنة اثنتين وأربعين وخمس مائة، حسب ما رجحه ابن الأبار.

مصادر ترجمته: التكملة لكتاب الصلة، لابن الأبار: (1/51ـ52) والذيل والتكملة لأبي عبد الله محمد بن محمد المراكشي: (1/471ـ472) معجم أصحاب القاضي أبي علي الصدفي، لابن الأبار: (ص: 34ـ35) وتاريخ الإسلام للذهبي: (11/801) والديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب: (ص: 219) وطبقات المفسرين للسيوطي: (ص: 24).
                                                                        إعداد: ذ.محمد لحمادي
                                                                        باحث بمركز الدراسات القرآنية

الخميس، 31 ديسمبر 2015

"وضع اللغة العربية بالمغرب بين التأصيل والتجديد" موضوع ندوة علمية بالرباط



"وضع اللغة العربية بالمغرب بين التأصيل والتجديد" موضوع ندوة علمية بالرباط

ذ.محمد لحمادي

احتفاء باليوم العالمي للغة العربية، نظم مركز ابن رشد للدراسات اللغوية العربية بتنسيق مع شعبة الدراسات الإسلامية، وتعاون مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ندوة علمية تحت عنوان: "وضع اللغة العربية بالمغرب بين التأصيل والتجديد"، وذلك بمشاركة ثلة من الأساتذة والباحثين، يوم الجمعة 8 ربيع الأول 1437هـ/ 18 دجنبر 2015م، ابتداء من الساعة الثانية والنصف ظهيرة، بمدرج الشريف الإدريسي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط  .





افتتحت الجلسة الافتتاحية للندوة العلمية بآيات من الذكر الحكيم، تلتها كلمة الأستاذة الدكتورة يمينة قيراط بالنيابة عن عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، التي عبرت فيها عن سعادتها لحضور هذه الندوة العلمية، احتفاء باليوم العالمي للغة العربية،  ووجهت شكرها لرئيسة مركز ابن رشد للدراسات اللغوية، كما اعتبرت أن مثل هذه اللقاءات العلمية تستوجب التوقف، لتبصر المشكلات المطروحة، من أجل تحليلها ودراستها، ومن تم إيجاد حلول واقعية لها، تضمن أصالة المنبع مع مراعاة ضرورة تجديد المنهج.

  

ونبّهت في هذا الصدد إلى أن الفريق المسيّر للكلية يدعم "كل الجهود المبذولة والشد على أيادي من يريد المضي قدما في ميدان العلم..."، وأن مثل هذه المناسبات هي مرحلة لتلبية رغبات الطالب الطموح كما تعد مرحلة للتهيؤ للالتحاق بضرب الأوائل والإسهام لاحقا في حل مشكلات معاصرة.




كما اعتبرت أن مثل هذه الندوات فرصة هامّة لتكوين جيل من الباحثين، يكون لهم حضور في توجيه القضايا الوطنية وقضايا العصر بصفة عامة، بما يحفظ لأمتنا المغربية عضويتها ويحافظ على خصوصياتها وقيمها، ويسهم في التنمية الشاملة التي أعطى انطلاقتها مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله.

 

وفي كلمة للأستاذة الدكتورة بشرى البداوي رئيسة مركز ابن رشد للدراسات اللغوية العربية، اعتبرت أن "قضية الاهتمام باللغة العربية اليوم لم تعد مسألة متعة فكرية أو نشاط ثقافي وإبداعي بقدر ما هو اهتمام بقضية حضارية تهم مصير أمة ومكانتها بين الأمم".




كما أضافت قائلة بأن "مناقشة واقع هذه اللغة والبحث عن السبل الكفيلة بتجديدها وتطويرها وجعلها حية في معيشنا وثقافتنا باعتبارها جزءا من قيمنا هو الموضوع الذي يقترح عليكم مركز ابن رشد للدراسات اللغوية العربية تناوله في هذه الندوة، من منطلق القراءة العلمية الرصينة والمعالجة الفكرية الهادفة القائمة على منطق النقد والتوصيف العلمي، وقراءة تحليلة متأنية بعيدا عن كل تعصب أو أحكام مسبقة".

 

وحث الدكتور صالح زارة في كلمته بالنيابة عن رئيس شعبة الدراسات الإسلامية، على تدعيم مثل هذه الندوات وتنظيمها طيلة السنة، مشددا على أن إعزاز اللغة وإعطاءها المكانة التي تستحقها واجب على الفرد. 

 

وأشار د. صالح إلى أن شعبة الدراسات الإسلامية وأساتذتها يجتهدون للانخراط في كل ما يخدم هذه اللغة تأصيلا وتقعيدا وتطويرا، وأكد أن أساتذة الشعبة قاموا بالنظر إلى المقرررات والملفات الوصفية والمناهج الدراسية والمعايير البيداغوجية للمسالك، وكانت دائما تحرص أن تكون للغة العربية المكانة اللائقة بها، لأن اللغة العربية مفتاح لفهم النص الشرعي.

 

ويشار إلى أن الندوة عرفت مشاركة ثلة من الأساتذة من داخل الكلية وخارجها، انتظمت في جلستين علميتين، في الجلسة الأولى التي ترأسها د. عبد الرزاق الجاي، عرفت مشاركة د. أحمد الدبيان بورقة علمية: "تدريس اللغة العربية في الجامعات العربية"، ود. رشيد لحلو، بورقة علمية بعنوان: "لحظات شاهدة في تاريخ اللغة العربية"، ود. محمد قجوي، بورقة بعنوان: "أثر اللغة العربية في التفسير"، ود. صالح بلعيد بورقة بعنوان: "اللغة العربية جاذبة أم طاردة".



وفي الجلسة العلمية الثانية التي أدارها أ.د محمد الأمين الإسماعيلي، شاركت فيها دة. بشرى البداوي بورقة حول "حق اللغة العربية بين التأصيل والتجديد"، ود. العربي بوسلهام بورقة بعنوان "اللغة العربية والبناء الحضاري للأمة الإسلامية"، ودة. الجوهر مودر بورقة عنوانها: "الاهتمام بلغة السياحة: اسثمار أمثل للغة العربية"، وختمت الندوة بإبداعات شعرية لطلبة من المغرب وخارجه.

الخميس، 9 أكتوبر 2014

"الثقافة والعولمة وقضايا إصلاح الفكر والتجديد في العلوم الإسلامية" للدكتور سعيد شبار.


"الثقافة والعولمة وقضايا إصلاح الفكر والتجديد في العلوم الإسلامية" للدكتور سعيد شبار.

صدر حديثا كتاب: "الثقافة والعولمة وقضايا إصلاح الفكر والتجديد في العلوم الإسلامية"، للدكتور سعيد شبار، عن "مركز دراسات المعرفة والحضارة"، (سعيد شبار، الثقافة والعولمة وقضايا إصلاح الفكر والتجديد في العلوم الإسلامية، مركز دراسات المعرفة والحضارة، سلسلة أبحاث ودراسات فكرية، 2، دار الإنماء الثقافي، الرباط، ط 1، 2014، 221 ص من الحجم المتوسط).

جاء الكتاب موزعاً على مقدمة وثلاثة فصول، كانت عناوينها كالتالي: "الثقافة والعولمة قراءة في جدل المحلي والكوني" (وتضمن مبحثان: في تعريف الثقافة ومقتضيات التثاقف؛ الثقافة والعولمة وجدل المجلي والكوني)؛ "مفهوم الإصلاح وتجددي الرؤية والمنهج لتجديد العلوم والتديّن" (وتضمن المباحث التالية: مفهوم الإصلاح في اللغة، والشرع، والاصطلاح (أو التداول التاريخي)؛ من أجل منهاج قرآني تجديد في الفكر والعلوم (رؤية منهجية)؛ مداخل علمية وإرشادية في الإصلاح الديني والتغيير الثقافي)؛ "مفهوم الإصلاح وتجددي الرؤية والمنهج لتجديد العلوم والتدين"؛ "استئناف التجديد والبناء في العلوم.. دفعاً لآفاق الانفصال وربطا بواقع وتطلعات الأمة". (وتضمن المباحث التالية: في الحاجة إلى استئناف التجديد في العلوم الإسلامية؛ من مظاهر التحيز في العلوم الإسلامية وتأثيرها على ثقافة الأمة وعطائها الكوني؛ فقه الواقع، سياق خارجي ومقامي النص؛ الخلفيات الفكرية الموجهة للقراءات الحداثية للقرآن الكريم، ونقد أطروحة التسوية بين الكتب المقدسة).

افتتح المؤلف عمله بالتوقف عند أهم تيارات التثاقف السائدة في الساحة العربية الإسلامية، مُبدياً بعض الملاحظات حول استعمالات هذا التثاقف في بعض المفكرين، وإن كانوا من مصنفين عموما في الاتجاه القومي، أو حتى "العلماني المعتدل"، فإن بعضاً منهم يصنف نفسه اتجاها ثالثاً بين اتجاهين سائدين: اتجاه الانبهار بالغرب الثقافي والتماهي معه، واتجاه الرافضين له والمستنفرين ضده، أما الاتجاه الثالث حسب أحد المعبرين عنه بوضوح، عبد الإله بلقزيز، فهو تيار التثاقف النقدي الذي لا نعثر له على أشباه ونظائر في المجتمع الأهلي، وهو الأكثر توازنا في الوعي العربي المعاصرـ وعلى صعيد إدراكه للغرب والثقافة الغربية بالذات فهو يبدي سائر أنواع الانفتاح عليها دون تردد، لكنه يحفظ نفسه، في الوقت ذاته، حق مساءلتها وإخضاعها للنظر النقدي من باب مطابقتها للحاجات الاجتماعية والفكرية للمجتمع العربي.


في نقد التقابلات الزائفة

يتحسر المؤلف كثيراً على سيادة لائحة من التقابلات الوهمية والزائفة في الساحة الفكرية العربية والإسلامية، غذتها من وجهة نظره، مؤثرات خارجية قديماً وحديثاً، وتأسست بذلك عوامل من الفرقة والتجزئة المذهبية والطائفية الضيقة في مدارس واتجاهات قائمة بذاتها، تنتمي إلى أحد طرفي معادلة ابتدأت بـ"أهل الرأي وأهل الأثر"، و"العقل والنقل"، و"الحكمة والشريعة"، وتبلورت إلى "العلم والدين"، و"الدين والدولة"، و"التراث والتجديد، و"الأصالة والمعاصرة"، و"الحداثة والتقليد"، واللائحة مرشحة لإنجاب المزيد.

أما مرد هذه التقابلات، فمرتبطة على الخصوص بمناهج التأريخ والدراسة للفكر الإسلامي بمذاهبه الفقهية والعقائدية وتياراته الفكرية والفلسفية، والإحالة تحديداً على مذاهب لم تعمل على إحياء وإنضاج "ثقافة الوحدة" المؤطرة للخلاف والمستوعِبة له، بقدر ما أرخت لـ"الفرق بين الفرق" ولـ"الملل والنحل" وتعمقت في أسباب الخلاف تأصيلاً وتفريعاً.

نأتي لمعالم التجديد الشامل الذي يُحيي تكاليف الأمة الجماعية، كما سَطّر بعض معالمها المؤلف في أحدث أعماله، منطلقاً مما يُشبه مًسلّمة لا زالت غائبة عند العديد من فكرانيات الساحة، ومفادها أن الأصل في العلوم الإسلامية كونها نشأت ابتداءً من الوحي، وبينها وحدة عضوية موضوعية لوحدة الأصل والمصدر، وأن الخيط الكلي الناظم لكل هذه العلوم [بيت القصيد] ينبغي أن يعكس تكالمها ودورانها مع الأصل حيث دار؛

والحال، أن الناظر إلى واقع هذه العلوم التاريخي والراهن، يلحظ أن كلاً منها يدور في فلك خاص وأطر مرجعية ومنهجية خاصة، حتى لكأنها جزر منفصلة بعضها عن بعض، وأن فيها من التجريد والصورية أكثر مما فيها من الواقعية لتعطلها عن المواكبة العملية.

ليس هذا وحسب، فزيادة على القلاقل سالفة الذكر، سقط الفكر الإسلامي في "فخاخ" التغريب والاستلاب ومقدمات الاستتباع، والتي لا تعدو أن تكون فكرية ثقافية بالدرجة الأولى، ومرد ذلك أن الغرب نجح في صكّ وترويج مجموعة من الدمغات والأختام الجاهزة: نحن إزاء مصطلحات ومفاهيم، ذات قدرات تأثيرية عالية منذ عصر نهضته إلى عصر عولمته، معتبراً أنه من مستعجلات فكرنا الإسلامي المعاصر البدار المنظم والمنتظم للاشتغال على جبهة المفاهيم والمصطلحات باعتبارها مفاتيح العلوم والثقافة والفكر، والتي تسحب أرصدتها الذاتية تباعاً بعامل الزحف الأجنبي الدلالي عليها، وذلك بإعادة بناءها ذاتيا وتحريرها من كل إفادة إيجابية منها، ولمَ لا إعادة تسميتها من خلال المعجم العربي، حيث يمكن لتلك المفاهيم أن تقوم بوظائف البناء الذاتي لا الإلحاقي، فتسهم في بناء حداثة الأمة الخاصة بها.

من الأسئلة المؤرقة لسعيد شبار في ثنايا هذا العمل، تلك المرتبطة بتأسيس نموذج إصلاحي بنائي للبدائل وفق الرؤية والمنهاج في ظل نظام العولمة وما تتيحه من تقريب ما كان غائباً عنا، أي الأفق الكوني الإنساني، أفق العالمية الذي هو أحد خصائص الرسالة [الإسلامية] نفسها، نقول هذا أخذا بعين مقتضى الآية القرآنية الكريمة: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".

وجلّي، يضيف شبار، في خطاب يهم العديد من فكرانيات الساحة، ومن شتى المرجعيات، أن أي نظام فكري جامد ومتأخر عن زمانه، غير مؤهل لأن يُنتج خطاباً إصلاحياً، وهل الآليات (المناهج) المتاحة في هذا الفكر وبالطريقة المستعملة والمتوارثة تسمح بإنتاج خطاب ومعرفة تصحيحية إصلاحية، أم أنها لا تملك إلا إعادة إنتاج الظواهر الفكرية والثقافية نفسها ولربما بصورة أسوأ؟، يضيف المؤلف بنبرة صريحة، ومن بوسعه نفي سُنّة كونية مفادها أن فاقد الإصلاح الذاتي غير مؤهل لإصلاح الوطن والأمة والإنسانية.

كما توقف المؤلف عند لائحة عريضة من الإصلاحيين القدامى، ومعها المعيقات التي حالت دون التأسيس لإصلاح ديني، ولخصها في حتمية التمييز بين الأصول المؤسِّسة للمعرفة وتلك التي أسستها المعرفة، حيث تحولت كثير من المقررات المذهبية والفرقية إلى أصول نائبة عن الأصول وحلت محلها، مضيفاً أن العديد من حركات الإصلاح والتغيير أخطأت موعدها مع الدين ومع سُنَن ومسالك التغيير التي ينص عليها، وإن تحدثت باسمه ورفعته شعاراً وأفكاراً. ولهذا كانت مقولة "العودة إلى الدين" دائما على رأس بنود الإصلاح، دون تحديد "كيف" تتم تلك العودة وما هي مداخلها ومراحلها، وأصولها وفروعها، وأولوياتها وارتباطاتها وامتداداتها.. إلخ. إذ غالبا ما نجد مشروع "الإصلاح" ينتهي إلى نزال سياسي معين، ومقاربة جزئية ضيقة، لا تكاد توحد وتؤطر أصحابها فكيف بغيرهم حولهم أو أبعد منهم!

إصلاحيون قدامى ومتقدمون على المعاصرين

إشارة نقدية تتطلب وقفة تأمل: مهما قيل بخصوص أعطاب المشاريع الإصلاحية لرموز النهضة (الطهطاوي، عبده، الكواكبي..)، بالصيغة التي لخصها باقتدار علي أومليل، من أن "آراء الأنواريين [الأوروبيين] في المسألة الدينية قد انتقلت لتؤثر على المفكرين العرب الإصلاحيين. فما كان لهؤلاء أن يذهبوا في نقدهم للظاهرة الدينية [الدين]، والوحي، والمعجزات، إلى المدى الذي ذهب إليه الأنواريون، ذلك أن هناك فروقا في الموقف من الدين هنا وهناك" (أنظر: علي أومليل، في معنى التنوير، ضمن كتاب: حصيلة العقلانية والتنوير في الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 2005، ص 141.).

والحال، كما عايناه بشكل صادم بعيد اندلاع أحداث "الربيع العربي"، أن اجتهادات الإصلاحيين القدامى متقدمة على زمنهم السياسي والديني على حد سواء، فرفاعة الطهطاوي، ومن خلال عمله "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، انصبّ جهده على "تطوير التعليم" و"تعليم البنات" و"هدم الآراء الفاسدة"، وهي اهتمامات لا زالت راهنة اليوم أخذاً بعين الاعتبار مشاريع ومواقف تيارات إصلاحية دينية لا يتردد بعضها في "تحريم" تعليم البنات، أو منعهن من العمل خارج البيت، بما يُفيد أنه رغم ما يمكن أن تُؤاخذ عليه اجتهادات رموز الإصلاحية العربية منذ قرن ونيف، إلا أنها قطعاً كانت متقدمة جداً مقارنة مع "الأفق المعرفي" الإسلامي السائد حينها، ومواكبة "الأفق المعرفي" الإسلامي السائد اليوم، إن لم تكن متقدمة عليه في الأفق الإصلاحي، ولهذا ــ بالعودة إلى كتاب سعيد شبار، ضيف هذا العرض ــ يمكن الانطلاق من رموز هذه المدرسة الإصلاحية في المشرق والمغرب على حد سواء، مع الأفغاني والطهطاوي وعبده، والتونسي والكواكبي وابن باديس والإبراهيمي وابن عاشر وعلال الفاسي والحجوي، من تلك الطينة العلمية التي استلهمت جيداً التراث الإصلاحي التأصيلي القديم، من أجل تأسيس أرضية مهمة في طرح أسئلة الإصلاح الكبرى التي تم التعامل معها [لاحقا] باختزال كبير، بل وتم التراجع عنها الآن لفائدة أسئلة واهتمامات جزئية.

عطفا على أحداث الحراك العربي، أو "الانتفاضات الشعبية" كما جاء في الكتاب، وهنا وجبَ التنويه بإشارة نقدية مهمة، ضمن لائحة من الإشارات الواردة في هذا العمل القيّم: ما ينبغي الخشية منه أو الحذر منه، حسب المؤلف، هو أن تكون العودة إلى الدين بحثا عن حاجة في الدين وعد بها هذا الاتجاه أو ذلك باسم الدين أو باستناده إلى الدين، حتى إذا أخفق فيها نفض الناس أيديهم من أي إمكان إصلاحي أو تغييري باسم الدين، ولم يعد له في نفوسهم إلا طقوسه وشعائره التعبدية. أو على الأقل ذلك ما سيعطي مبرراً لخصومه للطعن فيه كمشروع حضاري ومعرفي وثقافي وليس كمشروع سياسي وحسب، أما مكمن العطب المسكوت عنه في هكذا اختزال للدين (من خلال ترويج نموذج معين من التديّن)، فيُحيلنا على ما حفل به كتاب لا يقل رصانة، صدر منذ بضع سنين في الساحة الفرنسية للباحث أوليفيه روا، ويحمل عنوان "الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة"، (صدرت ترجمته للعربية عن دار الساقي) وهذا كتاب حافل بالعديد من المفاتيح المفاهيمية لفهم هذه الظواهر الاجتماعية التي تتحدث عن/ في الدين، سواء كانت تنهل من هذه المرجعية الفكرانية أو تلك.

مآزق فصل الدين عن الثقافة

يُفيد هذا المأزق، أنه في التديّن ـ والتقييم لسعيد شبار ــ الثقافة قبل السياسة، وإذا تعاطى المتديّن السياسة قبل الثقافة قد تحل من الكوارث ما لا تُحمد عقباه. ويقصد بالثقافة معناها الشامل المستوعب للفقه والعلم والمعرفة والواقع، ولو بأقدار مختلفة تمكن من تدبير الاختلاف وتحقيق المصالح والحفاظ على سقف الوحدة المؤطر للجماعة.

ولأن المؤلف، على غرار أهل "الأفكار الطولى" ــ اصطلاح سَطّره طه عبد الرحمن ــ يأخذ مسافة نظرية وعملية من بعض التيارات المتصارعة في الساحة، رغم أنها تمثل أقلية، فإنه يُنبّه وينصح هذه الفكرانيات، معتبراً أنه لا أحد يمكنه احتكار النص والتحدث باسمه، وفي المقابل، لا أحد يمكنه احتكار العقل والتحدث باسمه، فالنص رسالة للعالمين والعقل نعمة الله على الناس أجمعين، ولقد نبّه إلى هذا الدور التكاملي بين طرفي هذه الثنائيات ونفى اشكال التعارض بينها علماء متقدمون في الأمة ومتأخرون، دون أن يعني ذلك تجاوز منطق الثنائيات أصلاً، من منطق أن الله تعالى خلق من كل زوجين اثنين، لولا أن هناك فوارق جلية بين (1) الثنائيات الوجودية التي لا يملك الإنسان إزاءها شيئا كثنائيات الخالق والمخلوف، الدنيا والآخرة.. أو (2) الثنائيات الوجودية الاختيارية كثنائيات الخير والشر والصلاح الفساد.. وبين (3) الثنائيات التي يصنع الإنسان تقابلها ويفتعل الخصومة بينها بنفسه، والأصل فيها ليس التقابل والتضاد وإنما التكامل والانسجام.

نأتي لإحدى أهم مضامين العمل، والإحالة هنا على مبحث "الخلفيات الفكرية الموجهة للقراءات الحداثية للقرآن الكريم"، حيث أورد سعيد شبار مجموعة من المُحدّدات التي تقف وراء صعود أسهم هذه القراءات، لعل أهمها، التجربة التاريخية للنص اليهودي والمسيحي؛ حركة النقد العنيفة التي أطاحت بقدسيته من باحثين ومفكرين ينتمون إلى الحقل الديني أو من خارجه؛

منها كذلك الرؤية التشكيكية التي شكلتها المدارس الاستشراقية التي كانت تصور الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية وتقدمهما للاستهلاك الغربي على غير حقيقتهما وبكثير من الخلط والتشويه؛ وأخيراً، نجد أيضاً واقع الأمة المنحط والمتخلف، وأنماط الفكر التقليدية السائدة فيه، مع التنويه الضروري في هذا المقام، إلى أن شبار يشير في موقع آخر من العمل، إلى أن نقده للتقليد ليس نقداً للمذهبية وللمذاهب، مادامت هذه الأخيرة يُحسبُ لها أنها استطاعت أن تحافظ على بلدان أمنها واستقرارها، وأن تدرأ عنها كثيرا من الفتن، لكنه نقد لحركة تجميد العقل التي انتشرت بقوة ووجد فيها الكثيرون ملاذاً للراحة، مما فوت على خلف الأمة فرصاً في البناء.

ذ.منتصر حمادة (بتصرف).